بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، رب المخلوقات أجمعين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين، وآل كل وصحب كل أجمعين، وبعد:
تشكل بيئة الأرض وحدة متماسكة، أحد عناصرها هو الإنسان، والإنسانُ سيد أحياء بيئة الأرض، خلقه الله في أحسن تقويم، وأودع فيه قدرات عقلية وجسدية، وقابلية التكيف المستمر في سبيل تحقيق سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة،وبذلك استحق أن يكون خليفة الله في الأرض، فأوكل إليه مهمة تعمير بيئة الأرض، وإدارة عملية التغيير، وبالمقابل جعله مسؤولاً من خلال تلك القدرات، إلا أن إرادة الله شاءت أن تتضمن النفس الإنسانية جوانب الخير والشر، فعلى الرغم من قوة العقل وإرادة الخير، فالإنسان كائن ضعيف تغلبه شهوات النفس ورغباتها؛ فتعميه عن الحقيقة، وقد تؤدي به إلى الخروج عن النهج الذي أراده الله، والذي يحقق فيه الانسجام مع قوانين البيئة التي خلقها الله، فيسيء بجهله وشهواته إلى بيئته، وبالتالي إلى نفسه، قال تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن}(سورة المؤمنون [ الآية: 71 ].)، من أجل هذا كان لابد من قانون إلهي يرسم للإنسان السبيل الذي يبقيه دائماً بانسجام مع الطبيعة وقوانينها الإلهية.
1- لقد بدأ الإسلام بتعريف الإنسان بحقيقته، حتى لا يطغى ولا يسيء إلى نفسه ولا إلى من يحيط به، فطالبه الله بتحقيق مبدأ العبودية فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(سورة الذاريات: [ الآية: 56 ].)، فالعبودية تعني الطاعة، والطاعة تعني الالتزام بأمر الله والبعد عما نهى عنه: يقول الله تعالى في القرآن: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها}(سورة الشمس: [الآيتان: 9 - 10 ].). كما طالب الإسلام بالصلة الراسخة بالله في السر والعلانية، ووظَّف أسلوب الترغيب والترهيب لضبط السلوك من أجل الوصول إلى الإيمان؛ لأن الإيمان يعني سلوكاً إنسانياً سوياً إيجابياً، ففي حين شجع الإسلام كل ما هو مفيد للبيئة الإنسانية والطبيعية، وضع عقوبات على المسيء للبيئة بكل جوانبها، وبهذا ضبطٌ دائمٌ لسلوك الإنسان نحو الخير والعطاء والتضحية، والبعد عن الإثم والشر، وبالتالي يشكل هذا ركناً من أركان حماية البيئة في الإسلام.
2- والعلم هو المدخل الصحيح للتربية بشكل عام، والتربية البيئية بشكل خاص، لذلك نرى الإسلام قد طالب الإنسان بطلب العلم، من أجل كشف قوانين بيئته الصحيحة، والبيئة الكونية، وجعل ثمرة ذلك، التقرب إلى الله سبحانه، قال تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ}(سورة فاطر: [ الآية: 28 ].)، وجعل طلب العلم فريضة لابد منها، وأمر الإسلامُ بالعلم دون اعتبار لحدود المكان أو الجنس، وجعل الإسلام العلم يشمل كل فئات الأعمار، ويبدأ منذ الولادة وحتى الوفاة. يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))(رواه ابن ماجه، كتاب [المقدمة] عن أنس بن مالك، رقم (224).).
وقد وجه الإسلام الإنسان نحو العلم النافع، الذي تعود ثماره عليه وعلى بيئته بالخير، ولابد لفاعلية العلم من إعمال العقل وتدبر المعارف، فطالب الإسلام الإنسان أن يُعمل عقله مفكراً متدبراً متأملاً في نفسه وفي ما يحيط به، لذلك كثرت الآيات في القرآن التي انتهت بقوله: {أفلا تعقلون}( ذُكر قوله تعالى: {أفلا تعقلون} في مواضع كثيرة، منها في سورة البقرة: [الآية: 44] و [الآية: 76]، وسورة آل عمران: [الآية: 65].)، {أفلا يتدبرون}( سورة النساء: [الآية: 82]، وسورة محمد: [الآية: 24].).
ومن ذلك التوجيه، قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}(سورة الإسراء: [ الآية: 36 ])، كل ذلك من أجل كشف القوانين التي تتحكم بالبيئة الطبيعية وقوانين النفس البشرية، كي لا تقف الأوهام والخرافات عائقاً أمام معرفة الإنسان لحقائق الكون وقوانينه، فيفهم بيئته بكل جوانبها، ويتكيف منسجماً مع نظامها، مما يؤدي إلى حمايتها من الأذى.
3- وبما أن الإسلام يقوم على الواقع المادي والروحي للإنسان في آن واحد، فقد طالبه بتحقيق التوازن بين مكونات نفسه جسماً وعقلاً وروحاً، وأن يعيش لها جميعاً دون تجاوز أو طغيان، وذلك من أجل حماية الإنسان من التطرف والخروج عن القوانين التي تحكم بيئته النفسية، فعندما أراد بعض الصحابة رضي الله عنه الإكثار من الطاعة دون توازن، رفض الإسلام ما دعوا إليه، وحدد مبدأ التوازن بين مكونات النفس الإنسانية، وبيّن لهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((أنه يصوم ويفطر، ويقوم الليل وينام، ويتزوج النساء فمن رغب عن سنته فليس منه))(رواه البخاري عن أنس في كتاب [النكاح] ، باب (الترغيب في النكاح)، حديث رقم [ 4776]، ورواه مسلم عن أنس في كتاب [النكاح]، باب (استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه)، حديث رقم [1401]، ونص الحديث: (( أما والله إني أخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )). ).
4- وفي مجال الحفاظ على توازن البيئة الاجتماعية، فقد حمَّل الإسلام الإنسان المسؤولية أيّاً كان موقعه ومكانته الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية. عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته))(رواه البخاري في صحيحه، كتاب [الجمعة]، باب (الجمعة في القرى والمدن) حديث رقم (853) ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وأحمد، عن ابن عمر).
نَظَّمَ الإسلامُ العلاقة بين الفرد والجماعة، فالفرد لا يمكن أن يكون بمعزل عن الآخرين، إنما هو جزء من كل، إنه مسئول عن نفسه ومجتمعه الإنساني، ثم إن من مقتضى المسؤولية التنبيه، وإيقاف أي إساءة من قبل الغير للبيئة الإنسانية؛ لأن تدهور النظام البيئي يهدد البشرية جمعاء؛ سواء الذين ساهموا في أذيّة البيئة، أو الذين لم يساهموا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَنْ فَوْقَهُم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً))( رواه البخاري في كتاب [الشركة]، باب (هل يقرع في القسمة) حديث رقم (236)، ورواه الترمذي في كتاب [الفتن]، رقم (2174) عن النعمان بن بشير.)، وبهذا يتحقق مبدأ الرقابة التي تسعى إليها التربية البيئية العالمية.
كما حدّد الإسلام العلاقة الناظمة للأفراد (علاقةَ الإنسان مع والديه، وزوجته، ومع أولاده، وجيرانه وأفراد حيه، ومع بنـي جنسه)، وأقام مبدأ الاحترام والعطف والإحسان مع من يتعامل معهم، وَطوَّرَ العلاقة الإيجابية للفرد من مجتمعه إلى المجتمع الإنساني ككل، قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}(سورة الحجرات: [ الآية: 10 ].)، وقال أيضاً: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(سورة الأنبياء: [ الآية: 107 ].). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))( أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب [البر والصلة والآداب]، باب (نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً) ج4/1998-1999 عن النعمان بن بشير. وأخرجه أحمد في مسنده ج6/378، حديث رقم (18046).). وقال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(سورة الحجرات: [الآية: 13].).
وقد احترم الإسلام الإنسان لإنسانيته دون النظر إلى عقيدته، وإن العقيدة مردّها إلى الله، قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}( سورة البقرة: [الآية: 256].). وحَفِظَ للإنسان مقومات إنسانيته وهي: دمه، وماله، وعرضه، وحرم الاعتداء عليها، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))( رواه مسلم في صحيحه، كتاب [البر والصلة والآداب]، من حديث مطلعه ((المسلم أخو المسلم))، رقم (2564)، والترمذي في سننه كتاب [البر والصلة].). وهناك الكثير من المبادئ والأسس في الإسلام التي تحمي البيئة الإنسانية، وتمنع بالتالي أخطر تدهور للبيئة وأقساها، ألا وهو: تدهور الأخلاق، وانحطاط القيم، وانتشار الرذائل، ولهذا فقد أمر بالعدل والحرية والمساواة والصدق والأمانة، وحارب الظلم وكل أشكال الاستغلال والنفاق والغش والكذب والفساد، وهذا ما تعاني منه البيئة الإنسانية الحالية على مستوى الأفراد والشعوب، قال تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد}( سورة البقرة: [ الآية: 205 ].). وبمعنى آخر، فقد أحيا الإسلام الضميرَ في وجدان كل مؤمن، وبذلك تتحقق الحياة الكريمة للإنسان.
وفي مجال حماية البيئة الاجتماعية والصحية أيضاً، نظافةُ الطريق وحمايةُ الناس من أي أذى معنوي أو جسدي، يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) ( رواه مسلم في: كتاب [الإيمان]، باب (الإيمان شُعبُه وفضيلة الحياء)، حديث رقم (35).)، أي عن طريق الحياة والناس.
كما منع الإسلام تلويث الماء الراكد أو الجاري حتى من قبل الأفراد، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبال في الماء الراكد (رواه مسلم كتاب [الطهارة]، باب (النهي عن البول في الماء الراكد).). وعن جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الجاري (أخرجه الطبراني في الأوسط عن جابر [ كنز العمال ج9/353 ].). وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، وفي الظل)) (رواه الطبراني عن معاذ [كنز العمال ج9/365 ].).
ومن هذه الشواهد يتضح أن تلويث البيئة والطبيعة والإنسانية أمر خطير في نظر الإسلام، ولو كان على مستوى فردي محدود، كما أمر الإسلام بالحفاظ على الصحة العامة، وحَرَّمَ كُلّ ما يؤذي صحة الفرد؛ العقلية والجسمية والنفسية، فحرّم الخمر والمخدرات، وكُلّ الخبائث، ودعا إلى أكل الطيبات من الرزق، والاهتمام بالنظافة الجسدية، والعنصر الجمالي، قال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}( سورة الأعراف: [ الآية: 31 ].).
5- طور الإسلام علاقة الاحترام والعطف، حتى مع بقية الكائنات الحية سوى الإنسان، وفي ذلك حماية لمكونات أساسية في البيئة، وحفاظاً على النظام البيئي من التدهور، فعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته؛ فرأينا حُمَّرة معها فَرْخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرة فجعلت تفرش، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها)) رواه أبو داود في سننه، كتاب [الجهاد]، رقم (2675) وفي كتاب [الأدب] رقم (5268).حُمَّرة: طائر صغير كالعصفور. تفرش: ترفرف بأجنحتها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:...قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً ؟ قال: ((في كل كبد رطبة أجر))( رواه البخاري كتاب [المساقاة]، رقم (2234). ومسلم كتاب [السلام]، رقم (2244)، وأول الحديث: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش)).). وجاء في وصية أبي بكر الصديق لأسامة بن زيد عندما وجهه إلى الشام قوله: (ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة). وهذا عمر بن الخطاب يقول وهو في المدينة المنورة: (لو هلك حمل من ولد الضان ضياعاً بشاطىء الفرات، خشيت أن يسألني الله عنه) إن هذا الإدراك في حقيقة الأمر تعبير عن حس إنساني سليم، وفهمٍ كامل لروح الإسلام في احترام مكونات البيئة، وسبقٌ في إعطاء المعلومات عن التربية البيئية، في وقت لم تكن البيئة تعاني من ضغوط عليها كما في هذه الأيام، ولم يكن هناك بعدُ أيّ ذكر لمعلومات تتعلق بالبيئة.
1- أما في مجال حماية البيئة الإنسانية من الفقر وتطوير الحياة الاقتصادية:
آ- فقد أكد الإسلام على أهمية العمل واحترام الأيدي العاملة، ودعا إلى الكسب الحلال، وبحسب عمل المؤمن، واتساع دائرة نشاطه، يكون نفعه وجزاؤه، قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}(سورة النحل: [الآية: 97 ].)، وطالب الإسلام العامل بالأمانة قال صلى الله عليه وسلم: ((من غش فليس منا)) (رواه القضاعي عن ابن عمر من جزء من حديث مبدؤه (( يا أيها الناس لا غش بين المسلمين )) [ كشف الخفاء 2/350 ].). وطالبه بالإتقان، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن عمله))(رواه البيهقي عن عائشة [ كنز العمال 3/907 ].). وقال: ((من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له)) (رواه الطبراني عن ابن عباس [ كنز العمال 4/7 ].)، كما أمره بالوفاء بالعقود والمعاهدات، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}(سورة المائدة [ الآية: 1 ].).
ب- ومن جهة أخرى فقد وضع الإسلام قواعد إيجابية في استثمار الأراضي والانتفاع بها، وبذلك يقضي الإسلام على مشكلة كبيرة تعاني منها شعوب كثيرة، ألا وهي مشكلة التصحر؛ نتيجة إهمال الأراضي الزراعية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه)) (رواه البخاري في صحيحه، كتاب [الهبة]، رقم (2490)، عن جابر.) فالمسلم مطالب بأن يزرع أرضه بنفسه، أو يتيح لغيره زراعتها دون مقابل، أو يعطي أرضه لمن يزرعها ويتحمل جانباً من نفقات الإنتاج مقابل شطر من الناتج، وهي المزارعة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها)) (رواه البخاري في صحيحه، كتاب [المزارعة]، رقم (2210). ورواه أحمد في مسنده (باقي مسند الأنصار)، رقم (24362) عن عائشة. بلفظ: ((من عمّر...))).
ج- وفي مجال التنمية الاقتصادية فإن النشاطات الإنسانية في مجالات الإنتاج والتنمية والتوزيع تحكمها قاعدة الحلال والحرام، فالحلال هو ممارسة النشاطات النافعة للبيئة الطبيعية والإنسانية، أما الحرام فهو النشاطات التي تؤذي البيئة الطبيعية أو الإنسانية، ومن هنا فقد نظر الإسلام إلى الإنتاج النافع كواجب، ولا يكتمل هذا الواجب الديني إلا به. وبهذا فإن الإسلام ينظر إلى الصناعات ضمن منظور مدى ضررها على البيئة وحماية المجتمع الإنساني، ويمنع الجشع من وراء التطور الصناعي، وما ينتج عنه من تخريب الوسط الغازي والصلب والمائي، كما حدث اليوم، فالحديث النبوي الشريف يضع الناظم لمدى التطور الصناعي وعلاقته مع حماية البيئة بكل جوانبها، فيقول الرسول الكريم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (رواه مالك في الموطأ، كتاب [الأقضية]، باب (القضاء في المرفق)، رقم (1461). وابن ماجه في كتاب [الأحكام]، باب (من بنى فيما يضر بجاره)، رقم الحديث (2340)، قال في الزوائد: هذا إسنادٌ رجاله ثقات إلا أنه متقطع. كما رواه ابن ماجه تحت رقم (2341) قال في الزوائد: في إسناده جابر الجعفي، متهم. ورواه أحمد في مسنده.).
د- وضع الإسلام حداً قاطعاً للتدهور البيئي الناتج عن الفقر، وهو ما يعاني منه ملايين الناس في العالم، وسد منافذ الفقر، فما آمن بالله ساعة من نهار، من أمسى شبعان وهو يعلم أن إنساناً جائعاً في مجتمعه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)) (رواه البزار والطبراني عن أنس، (كنز العمال: 9/53).
ونظر الإسلام إلى الفقر على أنه خطر على العقيدة، وخطر على الأخلاق، وخطر على الأسرة، وعلى المجتمع. فوضع علاجاً للفقر من خلال فريضة الزكاة، ونظام الميراث، والإنفاق بأموال الكفارات والأوقاف وغيرها.
هـ- وفي مجال التنمية الاقتصادية ومكافحة الفقر أيضاً، عمل الإسلام على التقريب بين الطبقات؛ بتحريم الكنز ومظاهر الترف،وحث الإسلام على التعاون، والقرض الحسن ابتغاء مرضاة الله، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}(سورة المائدة: [الآية: 2].). وذم الإسلام البخل والرياء والمن والأذى، وحارب الغش والاحتكار.
و- الإسراف والتبذير في الموارد يزيد في تضخم مشكلة تدهور البيئة، لذلك وضع الإسلام قواعد تمنع أي هدر في أي مورد، قال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً}(سورة الفرقان: [ الآية: 67 ].). وقال: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}(سورة الأنعام: [ الآية: 141 ].)، وقال: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}(سورة الإسراء: [ الآية: 27 ].). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعدٍ وهو يتوضأ: ((ما هذا السرف يا سعد؟))، فقال أفي الوضوء سرف؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((نعم، وإن كنت على نهر جار))( رواه الحاكم في الكنى، وابن عساكر، عن الزهري مرسلاً (كنز العمال ج9/327).). وقال صلى الله عليه وسلم لأعرابي سأله عن الوضوء، فأراه صلى الله عليه وسلم الوضوء ثلاثاً ثم قال: ((هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى أو ظلم))(رواه النسائي في سننه، كتاب [الطهارة]، رقم (140). وروى نحوه أبو داود، كتاب [الطهارة]، رقم (135)، وابن ماجه، كتاب [الطهارة]، وأحمد في مسنده (مسند المكثرين).). فإن كان في الوضوء سرف وهو مدخل للعبادة، فكيف بالإسراف والتبذير الذي يتعدى حدود الحلال، والذي يُنَفَّذ بشكل واسع عند كثير من الأمم على مستوى الأفراد والجماعات والدول ؟!
ز- والزراعة من الموارد الأساسية التي تحمي بيئة الأرض، وقد أولاها الإسلام عناية متميزة، وجعل الاهتمام بها عبادة. فعن أنس رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً؛ فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة))(رواه البخاري في كتاب [الحرث والمزارعة]، باب (فضل الزرع والغرس) إذا أُكِلَ منه، حديث رقم (2320)، عن أنس، كما أخرجه مسلم في كتاب [المساقاة]، باب (فضل الغرس والزرع)، رقم (1552)، عن أنس.). ويقول أيضاً: ((إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)) ( رواه ابن عدي ج6/2294، وانظر: موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف لبسيوني زغلول ج1-أ/367.)، فهل هناك شيء أبلغ من هذا في تربية الإسلام البيئية؛ لحماية موارد الأرض النباتية، وإغنائها ؟ وهكذا ففي الوقت الذي تخلف فيه القانون الدولي البشري كثيراً عن الانطلاق نحو قاعدة بيئية للتنمية، والاعتراف بحقوق الأجيال الحالية والمقبلة، في بيئة ملائمة لصحتها ورفاهها، وحماية تلك الحقوق، نجد أن رسالة الإسلام قد اهتمت عن طريق التربية بتنظيم العلاقة بين مكونات البيئة، فوضعت نواظم وضوابط لمعاملة الإنسان مع نفسه، ومع الآخرين، ومع الأحياء، وكذلك نظمت العلاقة بين الإنسان وبين موارد الأرض والسماء، ودعت إلى حمايتها، والحفاظ عليها، وإنمائها، وسخرت لتحقيق تلك الغايات تربية شاملة ممتدة مدى الحياة، من أجل هندسة سلوكية لإنسان متكامل يحمل حساً بيئياً سليماً وعميقاً، لارتباطه الدائم مع موجد البيئة، ومصمم قوانينها.
كل ذلك يجعل الإنسان المسلم يقدّر البيئة الإنسانية والطبيعية، ويقيها من التدهور والدمار، من أجل تحقيق بيئة الأمن والسلام على الكرة الأرضية. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(سورة الأنبياء: [ الآية: 104 ].).
والحمد لله رب العالمين